جيل الثمانينيات في الشعر المغربي المعاصر

ليس لمصطلح الجيل سند نظري مكين ُيؤمّنُ له كفاية التوصيف، مادام يحتكم إلى التشابه والتعميم المنذورين للتفكيك. تفكيكٌ يستعجله نفورُ الشعر من كلّ ما يطمس الخاصّ فيه، أي من كلّ ما يفصله عن تجربة الذات الكاتبة في مجابهتها للغة ولسؤال الكتابة على نحو عامّ. ومع ذلك، يحتفظ مصطلح الجيل بسيولة تداولية تتجاوز مُمْكنه، مما يقتضي اعتماده ـ إذا لم يكن من ذلك بدّ ـ بحذر نظري. فالتساهل مع هذه السيولة، بمواصلة اعتماد المصطلح في الحقل النقدي، يفرض تشغيله من غير الكفّ عن مراقبته، أي استثمار وظيفته التربوية، من جهة، وجعله، من جهة أخرى، مُشرعا على تفكيكٍ متجددٍ، بما يضمن نقدَه بناء على هذا التشغيل نفسه.

     

   من ثم، فإن التوسل بمصطلح الجيل في بناء موضوع الندوة، أي مقاربة التجربة الشعرية المغربية الثمانينية، ينطلق من الوعي بحدود المصطلح في التوصيف، ومن الحرص على حصر وظيفته في الإحالة لا على خصيصة كتابية عامة أو بنية شعرية، لأن ذلك يحتاج إلى قراءات تحليلية لم تُنجَز بعد، وإنما في الإحالة على تقاطع شعراء مغاربة في زمن الشروع في الكتابة. التقاطع في زمن البداية، المقيَّد بمقياس العقود، هو مسوّغ اعتماد مصطلح الجيل، وهو مُمكنه على كل حال. مهمته موقوفةٌ، إذن، على فرز أسماء من المشهد الشعري المغربي المعاصر وتسييج المتن في ضوئها. بانتهاء هذه المهمة، يبدأ إلحاح صوغ الأسئلة النظرية والنقدية، التي لايستقيم بناؤها إلاّ بالارتكاز، في الأساس الأول، على المنجز النصي للشعراء المنتسبين، على نحو جمعي، إلى عقد زمني معين. ذلك أن الإنصات لهذا المنجز هو ما يمكن أن يفتح مصطلح الجيل على الاختلاف ويحميه من التحول إلى أداة للحجب،وصونه من وهْم افتراض التطابق في الرؤى الشعرية. هكذا يكون الاشتغال بمصطلح الجيل سبيلا إلى هدمه في آن. بتوجيه المصطلح إلى منطقة الاختلاف، يتكشّف الفرق بين الزمن الشعري والزمن المقيس، على نحو يمنع من التسليم، بغير حجّة نصية، بالقطيعة بين الأجيال، ويجنّبُ النقد من اعتماد مصطلح الجيل لتسويغ دعوى القطيعة. ذلك أن القطيعة انفصال يمس الزمن الشعري ولادخل للزمن المقيس به. فالقارئ يمكن أن يعثر، متى تحصّن بوعي نقدي، على ما يصل بين شعراء من أجيال مختلفة وعلى ما يفصل بين شعراء ينتسبون إلى الجيل الواحد.

 أفرزت التجربة الشعرية لجيل الثمانينيين في المغرب متنا شاسعا، لا بعدد الشعراء المنتمين إلى هذه التجربة وحسب، وإنما أيضا بالآفاق الكتابية التي فتحها منجَز كلّ واحد منهم، على نحو تبدّى معه تخلّف النقد عن مواكبة هذه الآفاق ومساءلتها. ولا تنفك هذه التجربة تعمّق، بما يواصل شعراؤها إنتاجه، حَرَجَ النقد، وتذكّره بمسؤوليته تجاه ضلع رئيس من أضلاع المشهد الشعري المغربي المعاصر. صحيح أن هذا المشهد يعاني، بوجه عامّ، من ندرة النقد وضؤولته، غير أن عجز هذا النقد عن الاستقصاء النصي لمتن الشعراء الستينيين والسبعينيين يضاعف من مشقة استقصائه لتجربة الثمانينيين، التي تنتظر زمن مقاربتها بهدوء معرفي، وبتأنّ يؤجّل الأحكام وينتصر للإنصات.

   قدِم الشعراء المغاربة الثمانينيون إلى الشعر من مواقع مختلفة ومن حقول ثقافية متباينة، وشقَّ كلّ واحد منهم لتجربته مسارا تفاوتت رهاناته وإبدالاته بتفاوت الوعي الشعري الموجّه لكلّ تجربة. لذلك ظل ما راكمه الشعراء الثمانينيون، منذ انطلاق تجربتهم، موشوما بالرؤية الشخصية للذات الكاتبة وبمغامرتها المعرفية والنصية مع اللغة، قبل أن يكون علامة على رؤية جماعية تغري باستخلاصها أوهامُ مصطلح الجيل. فالجغرافية التي رسمتها تجربةُ الشعراء المغاربة الثمانينيين احتفظت بتعدد السبل والمسالك وباختلاف الأصوات. ولن يستقيم استجلاءُ هذا الاختلاف إلاّ بالإنصات لمنجز هذه التجربة ولتفاعلهم مع سؤال الشعر وكتابته مغربيا وعربيا وعالميا. فأثر هذا التفاعل مجسَّد في العناصر النصية المضمِرة، لدى كلّ شاعر من شعراء هذه التجربة، لوعيه الشعري.

   أسهم الشعراء المغاربة الثمانينيون في توسيع النص الغائب للمتن الشعري المغربي المعاصر. فقد انخرطوا في ترسيخ ما سبق لجيل السبعينيين أن أرساه لمّا استند هذا الجيل إلى تصور نظري في مساءلة علاقة الشعري بالسياسي، ممّا هيأ تحرير الأول من تبعيته للثاني، وخطّ للشعر طريقه نحو المجهول. بانخراط الشعراء الثمانينيين في توسيع النص الغائب، مكّنوا ممارستهم النصية من محاورة نصوص قادمة من ثقافات متباينة، بما خوّل لهذه الممارسة استضافة لغات أخرى وملامسة أسئلة كتابية متجددة.

   إذا جاز للخطاب الواصف أن يحيل، في مسار الشعر المغربي المعاصر، على التجربة الشعرية الثمانينية بوجه عامّ، على الرغم من أعطاب هذا التعميم الملمَح إليه قبل حين، فلا مناصّ لهذه الإحالة من التشديد على سؤالين نظريين، بلورهما، على نحو لافت، المنجز النصي لشعراء هذه التجربة. تجسّد السؤال الأول في العلاقة التي فتحتها ممارستهم النصية بين الشعر والنثر. فقد انشغل الثمانينيون بهذه العلاقة نظريا، وعوّلوا عليها في كتابتهم الشعرية، التي انتسب متنٌ واسع منها إلى قصيدة النثر. استتبع هذا الانتساب، الذي ظلَّ ملمحا من ملامح الاختلاف الواسم لكتابة الشعراء الثمانينيين، جذْبَ النثر إلى منطقة الشعر، كما أسهم في توسيع مفهوم الكتابة الشعرية، بل إن العلاقة التي نسجتها الممارسة النصية بين الشعر والنثر، لدى الثمانينيين، ضاعفت من الأسئلة النظرية، وهو ما امتد أثره ليمَسّ هوية الشعر ذاته. ذلك أن هذه العلاقة قادت إلى مساءلة عنصر الوزن في الممارسة الشعرية. مساءلةٌ سعت نظريا إلى تقليص سلطة الوزن في بناء شعرية النص، وكشفت عن تفاعل الشعراء الثمانينيين مع المعرفة الشعرية العالمية وتفاعلهم مع أثر هذه المعرفة في المنجز الشعري العالمي والعربي. ذلك أن بلورة سؤال العلاقة بين الشعر والنثر، بكلّ تشعباته النظرية والنصية، لم يكن ليتسنّى للثمانينيين إلاّ بمواكبتهم للحوار الذي تفرّع، عالميا وعربيا، عن هذا السؤال وسرى أثره في الاشتغال النصي.

   السؤال الثاني الذي بلوره الشعراء المغاربة الثمانينيون تجسّد في عنايتهم البالغة برصد اليومي وتوسيع مناطق العثور على الشعر، وإنْ ظلت علاقتهم باللغة في هذا الرصد موشومة بالملمح الشخصي لكل واحد منهم، وبالرؤية الذاتية لِما يصل الداخل بالخارج في الإنجاز الشعري. هكذا اقتربت الممارسة النصية للثمانينيين من نبض اليومي، وهيأت الكتابةَ لتنصت للعابر والمبتذل ولِما يحجبه التكرار. ولم يكن هذا السؤال أيضا منفصلا عن نصه الغائب القادم من ثقافات أخرى.

   إن نسيان النقد لهذه التجربة ينضاف إلى نسيان عامّ يطول الشعر المغربي المعاصر بوجه عامّ. من هنا تتبدّى راهنية تنظيم ندوة علمية عن تجربة الشعراء الثمانينيين في المغرب. فهي مطلب ملحّ يتغيا ترسيخ الوعي بضرورة الانشغال بإنتاج معرفة عن ضلع من أضلاع المشهد الشعري المغربي المعاصر. هذه المعرفة هي الخليقة، فيما بعد، ببناء تصور عن مختلف الأضلاع وعن الوشائج والقطائع بينها. من هنا، لا تروم الندوة صوغ أجوبة عن التجربة الشعرية الثمانينية، أو استعجال استخلاصها، بقدر ما تسعى إلى بناء الأسئلة المؤجَّلة عنها. ولعل إشكال هذا المسعى هو ما يلزم بالانطلاق من دراسة المنجز الشخصي لكل شاعر ومصاحبة إبدالات هذا المنجز قصد تأمله في ضوء أسئلة ورهانات أشمل وأعمّ.الندوة، بهذا الوعي الموجّه لها، عتبةُ تأمل يستعجل مهمة النهوض به.